موسيقى كناوة إيقاعات روحية تمزج بين التراث المغربي والتقاليد الصوفية
تعد موسيقى كناوة واحدة من أشهر الأنواع الموسيقية الفريدة من نوعها، ولطالما ألهبت حماس المستمعين لها وجعلتهم يشعرون بأحاسيس جياشة أثناء الاستماع لها. تمثل موسيقى كناوة فنا صوفيا روحانيا يجمع بين الرقص الفلكلورية المنسجمة مع الايقاعات الموسيقية الساحرة، والترانيم الروحية التي تحرك الأحاسيس البشريو. يتميز هذا النوع الموسيقى الذي أصبح إرثا بشريا عالميا بتاريخ طويل من المعاناة والتطور والازدهار. في هذا المقال سنتعرض لكم كل ما يتعلق بموسيقى كناوة من جذورها التاريخية وحتى مهرجانها السنوي بالصويرة.
موسيقى كناوة الأصل والتسمية
تصنف موسيقى كناوة على أنها نمط موسيقي شعبي قائم بذاته تؤديها فرق فنية. تختلف هذه الموسيقى عن باقي الأنماط الموسيقية رغم تقاربها مع بعضها مثل الجاز والبلوز، واللذان يمكن مزجهما معها، كما أنها عبارة عن مجموعة من التقاليد التراثية والرقصات التي يتم أداؤها تبعا لإيقاعات موسيقية متسلسلة مع الأغاني ذات الطبيعة الصوفية.
وصفتها اليونسكو والتي أدرجتها في عام 2019 ضمن قائمة التراث الإنساني اللامادي بأنها مجموعة من الإيقاعات الموسيقية والممارسات والعروض الأخوية والطقوس العلاجية. مشيرة إلى أنها موسيقى صوفية ذات ارتباط وثيق بالدين من خلال الكلمات التي يتم غناؤها أثناء ممارسة هذا الفن، مما يجعل ممارسيها يحسون بشعور قوي بقيمة الهوية، كما أن هذه الموسيقى من خلال ايقاعاتها وكلماتها تستحضر الأرواح والأجداد.
اكتسبت موسيقى كناوة شعبية واسعة في المغرب، وصار لديها جمهور عريض، إذ لا يمكن أن تجد مجموعة من الشباب والرجال في المغرب إلا ويستمعون لهذا الفن الموسيقي، ويضعونه ضمن قوائمهم الخاصة. وقد أثيرت التساؤلات حول أصل كناوة وكثر الجدل حولها، غير أن معظم الآراء والأبحاث تذهب إلى أن كناوة ما هو الى تحريف لكلمة غينيا، إذ أن أصل هذه الموسيقى يعود تاريخيا إلى العبيد القادمين من افريقيا جنوب الصحراء والذين استقروا بالسواحل المغربية وعاشوا وسط المجتمع المغربي، فحافظوا على تقاليدهم من خلال أغانيهم، والتي انصهرت فيما بعد مع الثقافة المغربية بما فيها الإسلام كهوية.
وقد أشار روجي لوتورنو في الجزء الثاني من كتابه “فاس قبل الحماية”، إلى أن الحفلات الكبرى في المغرب والتي كان ينظمها الساسة والخواص كانت تعرف مشاركة فرق غنائية شعبية، كما أن هؤلاء الخواص كانوا يحضرون لهذه المناسبات فرق خارجية من بينها كناوة، إذ يقول:” .. الطوائف الشعبية غالبا ما يستدعيها خواص لإعطاء بهاء لحفلاتهم العائلية (…) وكانوا يتصلون أيضا بِكناوة (غينيا)، فالأمر يتعلق بزنوج كانوا قد وفدوا بكثرة على المغرب ابتداء من القرن السادس عشر (…) ولم تكن طائفة كناوة تقبل كأعضاء سوى السود”.
نصل من كل هذا إلى أن كناوة هم إثنية وطائفة عرقية سكنت المغرب في القرون الماضية، والمؤكد أنها عبيد أو جنود استقدموا من غرب افريقيا، ومن جنوب الصحراء، وعاشوا في المغرب محتفظين بهوية الأصلية، وبعد اندماجهم مع المجتمع المغرب صارت لهم هوية جماعية تمثلهم كمكون من مكونات البلاد. وقد أصبح كناوة جزء من الهوية الثقافة المغربية يحظون بالقبول والاحترام من لدن المغاربة قاطبة.
الجذور التاريخية لموسيقى كناوة.
تنسب أصول موسيقى غناوة إلى منطقة افريقيا جنوب الصحراء، إذ أن منطاق مثل السنغال ومالي، وما كان يسمى عبر التاريخ بلاد الواقعة أسفل وشرق الصحراء الافريقية الكبرى تميزت بأسليب تعبير غنائية لا تختلف كثيرا عن فن كناوة.
تربط الأبحاث التاريخية في الفنون الموسيقية والغنائية موسيقى غناوة بالعبيد الذين كانوا ينقلون للعمل على سواحل الأطلسي من أجل استخراج المعادن والملح خلال مختلف الحقب التاريخية بما فيها عصر الرومان، ومرحلة مملكة موريتانيا. كانوا العبيد يعبرون عن مآسيهم بأشكال غنائية وموسيقية يعتقد أن موسيقى كناوة واحدة منها.
من جانب آخر، ذهب بعض الدراسات إلى أن موسيقى كناوة ما هي إلا شكل تعبيري تندرج ضمن التقاليد والممارسات الروحانية للعبيد الذين عاشوا في سواحل الأطلسي وخاصة في منطقة موغادور. ونتيجة للتأثيرات الثقافية للمجتمع الأمازيغي والعربي بالمغرب على هؤلاء العبيد عاشوا وسطه، وجراء تبني جلهم للإسلام تطورت موسيقى كناوة حتى أصبحت بالشكل الذي هي عليه في الوقت الراهن، حيث أصبحت فن موسيقيا روحانيا شهيرا في مدينة الصويرة بشكل خاص، وأحد أكثر الأنواع الموسيقية تفضيلا لدى المغاربة وخاصة الشباب.
طقوس موسيقى كناوة
تعد الطقوس في ثقافة طائفة كناوة من أهم مكونات هويتها، وقد تطورت هذه الطقوس بحكم استقرار الطائفة في المغرب واندماجها مع الثقافة المغربية، لتصبح طقوسا صوفية مع بقاء الرقص الغريب والملابس الافريقية الواضحة، كما أن غناوة وتفاديا لأي تصادم اعتمدوا افتتاح طقوسهم واختتامها بذكر بالصلاة على النبي، كما تتخلل الأغاني تراتيل ذكر الله، وهي ما صارت مع الأيام من ضوابط موسيقى كناوة التي لا تتم إلا بها.
تتميز طقوس كناوة بمظاهر خاصة بالطائفة، فعلاوة على الايقاعات الموسيقية والغناء الذي يتضمن أهات وترانيم مثقلة بمعتقدات ومعاناة قديمة للغاية مرتبطة بمآسي العبيد في فترات تاريخية مضت، والتي امتزجت مع الصخب الغنائي للموسيقى الامازيغية والعربية المشحونة بعواطف الصراعات القبلية في عصر السيبة. فإن مظاهر إحراق البخور، والجدبة، والتوسلات بالعلاجات، وتقديم القرابين، وأشياء أخرى من قبل شرب المياه المغلية عند ذروة الاستعراض المحموم، هي أشياء تعكس عمق ارتباط هذه الطقوس بالماورائيات وعالم الخيال المتمثل في ثقافة الجن.
موسم زاوية سيدي بلال
يعتبر جميع أفراد الطائفة الكناوية أنفسهم منحدرين من نسل مؤذن الرسول بلال بن رباح، وقد انتسبوا له صدا لأي هجوم قد يتعرضون له من قبل علماء الدين والفقهاء باعتبار طقوسهم خارجة عن الملة، فصار بلال هو الأب الروحي لهذه الطائفة. وقد أقيم ضريح سيدي بلال غرب الصويرة مع زاويا خاصة بكناوة للتصوف وإقامة طقوس الطائفة.
تحتضن زاوية سيدي بلال موسما سنويا لكناوة في العشرين من شهر سعبان، حيث يتوافد على الزاوية في هذا الموسم اتباع الطائفة داخل المغرب وخارجه، إذ تقاك طويلة من الطقوس الكناوية بما فيها الرقص والغناء في جو هائج ومحموم.
الليلة الكناوة أو ما يطلق عليه الدردبة
هي واحدة من أهم طقوس كناوة، وهي ترتبط ارتباطا وثيق بالمعتقدات المتصلة بثقافة الجن، حيث تقام ليلة احتفالية كبرى في أحد المنازل التي سكنها عضو من أعضاء الطائفة في موعد سنوي يتم تحديده، ويتم تنظيمها إما احتفاء بمناسبة دينية مهمة لدى الطائفة، أو من أجل القيام بطقوس كناوة لعلاج حالة من حالات المس، والمس هو معتقد متأصل في الثقافة المغربية والافريقية يقصد به أن شخصا ما قد تلبسه الجن. من جهة أخرى ترتبط الليلة الكناوة في معتقدات الطائفة بكونها ليلة خاصة على شرف ملوك الجان وملكاتهم مثل شمهاروش، ولالة ميرة، ولالة مليكة، وسيدي ميمون، وسيدي حمو، ولالة عيشة، ولالة جميلة.
فرقة موسيقى كناوة وآلاتها
يطلق على الكلمات التي يتم غناؤها في الموسيقى الكناوية لفظ النديه، وغالبا ما تكون كلمات أغاني كناوة عبارة عن آهات وتوسلات، أو عبارات متصلة بالأساطير والمعتقدات، أو جملا ترتبط بالتقرب من الجان.
تؤدى موسيقى غناوة بشكل جماعي عبر فرق غنائية، تلبس أزياء فولكلورية ملونة. تتكون كل فرقة من مغني رئيسي يعرف باسم لمعلم، وهو الذي يتولى العزف على آلة الكمبري، كما تضم أعضاء آخرين يطلق عليهم اسم الكويو، وهم الموسيقيون الذين يقومون بقرع القراقب والطبول، بالإضافة لآلات موسيقية أخرى هي الدربوكة، والغانغا، والقرق، والهجهوج. وباستثناء الكمبري والدربوكة فباقي الآلات هي آلات حديدية لها دلالة واضحة للأغلال.
تؤدي فرقة غناوة أغانيها بافتتاحية معتادة بالصلوات على النبي وذكر أولياء الله الصالحين، يليها تراتيل يذكر فيها الله تعالى، ثم ترانيم أغلبها تتحدث عن السلام والاستعباد، والفرق والرحمة. كما يتم أثناء الغناء القيام بالرقص المتوافق مع الايقاعات الموسيقية.
الصويرة وموسيقى كناوة
مثلت الصويرة عبر التاريخ مكانا للتعايش السلمي المجتمعي، إذ عاش فيها المسلمون واليهود في انسجام تام، كما أنها واحدة من أقل الأماكن التي لم تعرف صراعات دموية مأساوية بين القبائل العربية والأمازيغية خلال مرحلة السيبة. وقد شكلت مدينة الرياح المغربية مكانا مثاليا لاستقرار العبيد والعرقيات الافريقية الذين تم استقدامهم من جنوب الصحراء وغرب افريقيا خلال قرون تاريخية متلاحقة.
سمحت طبيعة المجتمع في الصويرة لطائفة كناوة أن تحافظ على تقاليدها التي جلبتها معها بما فيها طقوس الطائفة وثقافتها وممارساتها الروحانية. فاندمجت الطائفة في مجتمع موغادور الفريد من نوعه، وتطورت مع انصهارها فيه، بفعل تأثيرات الهوية المغربية المتمثلة في الإسلام والثقافتين الأمازيغية والعربية، مما جعل موسيقى كناوة تتحول لفن موسيقى يحظى بشعبية كبيرة في المغرب ككل وبالصويرة على وجه الخصوص. بل إنها ازدهرت في الصويرة بشكل كبير حتى وصلت للعالمية.
المهرجان السنوي لموسيقى كناوة بالصويرة
يطلق عليه مهرجان كناوة وموسيقى العالم، وقد بدأ تنظيمه لـأول مرة عام 1988، إذ تحتضنه مدينة الصويرة خلال شهر يونيو في أيام يتم تحديدها مسبقا من قبل المنظمين. يعرف مشاركة فنانين عالمين في الجاز والبلوز، كما يأتي لحضوره مغنون وموسيقيون من جميع أنحاء العالم، بالإضافة للجماهير التي تحج إلى الصويرة لحضور أيامه والتي يبلغ عددها أحيانا 50000 شخص، والتي تأتي من مختلف مدن المغرب، كما يعرف حضورا جماهيريا من خارج المملكة.
يعتبر هذا المهرجان فرصة للتبادل والانفتاح الثقافي، كما أنه يعرف تلاقح وابتكارا على مستوى الفنون الموسيقية. يهدف بالأساس للحفاظ على ثقافة كناوة من خلال الترويج لها باعتباره حدثا عالميا يتقطب الآلاف.
أشهر رواد موسيقى كناوة
يعتبر محمود غينيا، وحميد القصري، وحسن حكمون أشهر الفنانين وملمين موسيقى كناوة وروادها على الإطلاق. فالمعلم محمود غينيا هو أشهر المعلمين في فرق كناوة، وهو فنان مغربي ولد بالصويرة عام 1951، وتوفي سنة 2015. اشتهر بالعزف على آلة الهجهوج، كما أنه عمل وتعاون مع نجوم موسيقى الجاز العالميين.
أما حميد القصري فهو أشهر معلم في فرق كناوة في الوقت الراهن، يتميز بصوته العميق وأدائه التقليدي المذهل لرقصات كناوة مع عزفه على الكمبري. ولد سنة 1961 في القصر الكبير، وخضع لتدريب وتكوين طويل لموسيقى كناوة على يد المعلم علوان والمعلم عبد الواحد ستيتو، إذ أن لالقصري بدأ التدريب والتعلم منذ كان في السابعة من العمر.
من جهته، نجح حسن حكمون في مزج موسيقى كناوة مع الجاز وأنواع موسيقية عالمية أخرى، ولد عام 1963، وهو يعيش في في مدينة نيويورك بالولايات المتحدة. وغير هؤلاء الثلاثة، فهنالك رواد أخرون اشتهروا كمعلمين في موسيقى كناوة نوردهم تواليا.
حميدة بوسو
مصطفى باقبو
حسن بوسو
عبد الكبير مرشان
عبد اللطيف المخزومي
هشام مرشان
ماجد بقاس
محمد كويو
إن موسيقى كناوة هي تعبير إنساني على المعاناة التي قاستها أقليات بشرية خلال عصور الاستعباد، تطورت مع الزمن حتى صارت نوعا موسيقيا قائما بذاته. مثلت موسيقى كناوة على مر السنين وسيلة لمقاومة الظروف القاسية عبر الفن، مما جعلها مؤثرة في الثقافة والأجيال داخل المجتمع المغربي.