تاريخ مدينة مكناس الاسماعيلية
تجر مدينة مكناس وراءها تاريخا عريقا يمتد الى عصر ما قبل الميلاد. خضعت لحضارات عدة توالت على حكمها عبر السنون، فمن المملكة الأمازيغية الموريتانية و الإمبراطورية الرومانية الى القبائل الأمازيغية بعدها ثم السلالات الحاكمة العربية و الإسلامية مثل الأدارسة والمرابطين والموحدين والمرينيين والوطاسيين و العلويين ثم اخيرا الإستعمار الفرنسي و الدولة المغربية الحديثة بعد الاستقلال. وكل من تعاقبوا على مكناس الزيتون تركوا آثارهم الشاهدة على فترتهم إلى الآن وإن اختلفت تركاتهم باختلاف درجات التأثير.
ولا زالت مكناس إلى اليوم حاضرة مركزية في الدولة المغربية نظرا لمكانتها التاريخية والجغرافية، حيث عرفت الاستيطان البشري لأراضيها منذ سالف الأزمان و تحولت الى حاضرة عمرانية ما يقارب الألف سنة من الآن بفضل تضاريسها المساعدة على الأنشطة الفلاحية و احتوائها تربة خصبة واراضي منبسطة، ثم الموقع الجغرافي المثالي للمدينة حيث تربط الطرق التجارية بين الشرق و الجنوب و قربها من مدينة فاس.
واليوم هي بالإضافة إلى دورها التجاري و الفلاحي و الصناعي، تعد احد أهم الوجهات السياحية بالمغرب لما تحتويه من كل ما يمكن ان يستهوي السياح الاجانب منهم و المغاربة من مناظر طبيعية خلابة و مآثر تاريخية تليدة و اماكن الترفيه وممارسة رياضات معينة مثل التزلج على الجليد.
تاريخ مدينة مكناس
مكناس قبل و اثناء حكم الادارسة
قد يختلف المؤرخون حول البدايات الأولى لبروز مدينة مكناس، فمنهم من يناسبها الى ماقبل الميلاد و قبل مجيء الرومان، ايام حكم المملكة الأمازيغية الموريتانية ، الا أنه لا خلاف على انها كانت اهلة بالسكان قبل الاسلام. و قد كانت مكناس من بعد المولى ادريس الثاني تدخل في إمارة ابنه أحمد بن إدريس الثاني بعد التقسيم الذي نهجه اخوه الاكبر محمد بن إدريس الذي وزع بقاع كثيرة على أخوته بوصية من جدته كنزة. اما تحول مكناس الى حاضرة مزدهرة فيجمع الكثير انها كانت في العهد المرابطي.
مكناس في عهد المرابطين
قام المرابطون الذين صعدوا الى شمال المغرب بعد اخضاع الجنوب و بناء مراكش بتشييد اسوار مكناس و بناء حي قصبة المرابطين المعروف باسم “تاكرارت” وتشييد مسجد النجارين في حي النجارين الذي يعد اقدم حي بالمدينة. كما اعتنوا بمرافق المدينة ووسعوها و شيدوا الحمامات.
عهد الموحدين
بعد سقوط الدولة المرابطية جاء الموحدون وساروا على نفس درب من سبقهم فاكملوا ما بدأه المرابطون و زودوا المدينة بالماء الذي جلبوه من عين تاكمة لتوفير حاجات السكان ومرافق الدولة، و استعملوا لذلك تقنية متطورة في عصرهم. في نفس الحقبة قام السلطان محمد الناصر الموحدي بتوسيع و ترميم المسجد الكبير في نهاية القرن الثاني عشر وبداية القرن الثالث عشر. ولا زالت بعض الأحياء في المدينة تشهد على المرحلة الموحدية مثل حي سيدي احمد بن حضرة و حي الحمام الجديد.
مكناس في عهد المرينيين
خلف بنو مرين الموحدين على حكم المغرب دون ان يغفلوا مكناسة الزيتون واهتموا بدورهم بمرافق المدينة و هم الذين كانوا يعتصمون بفاس جارتها كعاصمة. في فترتهم عرفت مكناس هجرة ما تبقى من الاندلسيين الذين طردوا من ما يعرف الآن باسبانيا بعد سقوط الاندلس. بنى المرينيون الكثير من المساجد في مكناس مثل مسجد التوتة و مسجد الزرقاء و خزانة المسجد الكبير بالإضافة إلى مرافق اخرى كحمام السويقة ومارستان الباب الجديد. كما اهتموا على عادتهم بتشييد المدارس على شاكلة ما قاموا به في فاس وهكذا رأت النور كل من مدرسة فيلالة و مدرسة العدول ثم مدرسة البوعنانية توأم تلك بفاس التي تحمل نفس الاسم. وفي النصف الثاني من القرن الثالث عشر قال السلطان المريني ابو يوسف يعقوب بتشييد قصبة خارج المدينة لكن الزمن نال منها ولم يتبق منها غير مسجد لالة عودة.
مكناس في عهد العلويين
إلا أن أهم و أعظم فترة عرفتها مدينة مكناس وذاقت بها كل أنواع الازدهار و شهدت على مجدها التليد هي عصر حكم السلطان العلوي المولى إسماعيل. تحولت في هذا العهد مدينة مكناسة الزيتون إلى المدينة الإسماعيلية نسبة إلى اسم ذلك السلطان الذي جعل منها عاصمة للدولة المغربية وصممها لتصبح أجمل مدينة في الشرق تنافس فرساي فرنسا على عهد الملك لويس الرابع عشر.
مكناس و السلطان المولى إسماعيل
مكناس المدينة الإسماعيلية او الحاضرة الإسماعيلية هي اسماء عرفت بها المدينة في فترة السلطان المولى إسماعيل و بعده. كان هاجس هذا السلطان العلوي هو العظمة من جهة و التأمين شبه المطلق لعاصمته من الحصار او الغزو من جهة أخرى. في تشييده لمكناس يلمس الباحث تلك الرغبة الجامحة لجعل المدينة تسمو على نظيراتها من حيث الفن والإبداع في عمارتها ومرافقها، فن أصيل يغرف من الألوان والزخارف الأندلسية و البربرية التي شكل اندماجها ما ميز النقش و الزخرفة المغربية، بالإضافة إلى نهلها من فنون العمارة الأوروبية آنذاك.
إلا أن هذه الجوانب الجمالية لم تكن وحدها ما كان يدور بخلد السلطان، بل كانت الجوانب الأمنية لا تقل أهمية في ذهنه. فمن اسوار المدينة التي إعادة بناءها و اصلاحها وتوسيع رقعتها وسمكها وعلوها، كان هدفه ان يجعلها حصنا منيعا ضد الاخطار الداخلية أو الخارجية. ولم يفته تامين الحاجيات الضرورية في حالة حصار المدينة، فزودها بما تحتاجه من مياه و طعام و بنى مخازن مختلفة لهذا الغرض، مما يجعلها تصمد لمدة طويلة في وجه الحصار.
واليوم يبقى اشد ما يجلب الزوار الى المدينة وما يفخر به سكانها هو موروثات العصر الاسماعيلي. وان كانت الآثار التاريخية للمدينة يرجع بعضها الى ما قبل تلك الفترة، إلا أن عصر المولى إسماعيل كان أهمها.
بالمدينة الكثير من الاثار التاريخية مثل باب البردعيين وباب الرايس وباب الخميس وهري المنصور ومربط الخيول الذي كان يتسع اثنتي عشر الف حصان، وصهريج الصواني وساحة الهديم والمدينة القديمة وغيرها. هذا كله بوأها مكانة فريدة كرابع مدينة امبراطورية بالمغرب و دخلت الى سجل منظمة اليونسكو في قائمة التراث العالمي سنة 1996.
أهم الآثار التاريخية في مكناس
عرفت المدينة مرور كثير من السلالات الحاكمة التي تركت اثارها على تاريخها والتي لازالت حاضرة الى الان. واهم ما خلفه الزمن من الاثار نذكر بعضها:
باب المنصور
أشهر المعالم التاريخية بمكناس، بناه السلطان المولى إسماعيل في القرن الثامن عشر. يتميز الباب بالنقوش و الزخرفة البديعة على جدرانه التي تبهر الزوار المغاربة والجانب. يصنف الباب من بين افضل ما خطته أيدي بشرية في كامل شمال افريقيا.
ضريح مولاي اسماعيل
يضم المكان القبر الذي دفن فيه السلطان العلوي المولى إسماعيل الذي حكم المغرب بين 1672 و 1727 و هو موجود في القصبة الإسماعيلية او ماكان قصر السلطان آنذاك.
صهريج السواني
يعرف كذلك بصهريج أكدال بناه المولى إسماعيل في القرن السابع عشر على بعد خمس مائة متر من باب قصره وكان الهدف منه تامين حاجات سكان المدينة في حالة الحصار.
ساحة الهديم
بناها المولى إسماعيل كصلة وصل بين القصور السلطانية والمدينة القديمة من جهة وضواحي مكناس من جهة أخرى. صارت بعد ذلك مكان للترفيه والفرجة تحتضن الألعاب البهلوانية القديمة والعروض التقليدية لمروضي الأفاعي.
المدرسة البوعنانية
تعرف ايضا بالمدرسة الجديدة وهذا ما يعتقد انه الاسم الأول لها. شيدها ابو الحسن علي بن عثمان المريني ، ابو ابي عنان و ان كان البعض ينسب هذه المدرسة اليه. تم تشييد المدرسة البوعنانية بمكناس في النصف الأول من القرن الرابع عشر، وكانت تعتني بتعليم الطلبة علوم الدين و توفر مركز لايوائهم. واليوم تعتبر المدرسة من ايقونات ابداع الفن المعماري المغربي في عهد المرينيين.
قصر دار المخزن
يعرف كذلك بالقصر الملكي بمكناس، تم تشييده على عهد السلطان المولى إسماعيل و استقر به الكثير من السلاطين بعده حتى عندما كفت مدينة مكناس عن لعب دور العاصمة.
سجن قارا
او حبس قارا او السرداب او المطبق الاسماعيلي ، كلها اسماء عرفت بها هذه المعلمة التاريخية التي بناها السلطان العلوي مولاي اسماعيل في بداية القرن الثامن عشر. يختلف الباحثون في وظيفتها، حيث يزعم الكثير انها لم تكن بالاساس سجنا بل مكانا لتخزين الحبوب. بينما تذهب روايات اخرى الى أن المكان استخدم بالاساس للاعتقال المؤقت للرهائن الاجانب وان السلطان كان يطلب فدية لاطلاق سراحهم، وكانت تلك الفدية من بين المداخيل التي يعتمدها المولى إسماعيل في توفير حاجيات المدينة و مصاريف بناء وصيانة المنشآت التي بناها.
المدينة الإسماعيلية وجهة سياحية مرموقة ولا زالت تحتفظ بتلك المكانة، فهي رابع مدينة امبراطورية بالمغرب و قريبة من فاس، ولا تزور وليلي الا عبر المرور بها.