اسوار مراكش التاريخية

أسوار مراكش التاريخية

تعد أسوار مدينة مراكش من أروع معالمها التاريخية، فهي تشكل حصنا تاريخيا يعكس عراقة وتراث المدينة الحمراء. بنيت هذه الأسوار في العصور الوسطى كوسيلة للحماية والدفاع، ولكنها اليوم تشكل جزءا لا يتجزأ من جاذبية وسحر مدينة النخيل. بدايةً من أبراجها الشامخة إلى بواباتها الرائعة. تروي أسوار مراكش قصصا عريقة عن تاريخ هذه المدينة الأسطورية. في هذا المقال سنتعرف وبالتفصيل عن تاريخ أسوار مراكش ومراحل تجديدها وكيفية بنائها.

لمحة عامة

صورة قديمة لاسوار مراكش

تعتبر أسوار مراكش منظومة دفاعية تاريخية تحيط بالمدينة القديمة في مراكش. تم تشييدها لأول مرة في أوائل القرن الثاني عشر الميلادي على يد سلالة المرابطين التي أسست الدولة المرابطية عام 1070 م، واتخذت من مراكش عاصمة لها. منذ ذلك الحين شهدت الأسوار عدة توسعات، كان أبرزها إضافة قصبة مراكش في الجنوب نهاية القرن الثالث عشر الميلادي، وتوسيعها لاحقاً لتشمل الحي المحيط بزاوية سيدي بلعباس.

تم بناء معظم أبواب مراكش بالتزامن مع إنشاء الأسوار الأساسية على يد المرابطين. وقد خضعت هذه الأبواب لتعديلات مستمرة، حيث أضيفت أبواب جديدة مع مرور الزمن، لاسيما خلال فترة حكم الموحدين الذين أسسوا القصبة وقاموا بتوسيعها وتطويرها على مر العصور.

نبذة تاريخية عن أسوار مراكش


مرحلة التشييد والبناء الأولى في عهد دولة المرابطين

تأسست مدينة مراكش في عام 1070 على يد الزعيم المرابطي أبو بكر بن عمر، وكانت في البداية تضم حصنا وحيدا يعرف بقصر الحجار، الذي شيده أبو بكر لحماية الخزانة. كان هذا القصر يقع بجوار مسجد الكتبية في الجزء الغربي من المدينة، والذي كان يعتبر أهم جزء في تلك الفترة. يرجح أن المدينة بنيت على شكل مربع، واحتوت على عدة بوابات، حيث يعتقد أن البوابة الغربية كانت تقابل بوابة المخزن في أسوار المدينة. كشفت الحفريات الأثرية في القرن العشرين أن الجانب الجنوبي من القلعة كان بطول 218 متر، مما يعكس عظمة الإمبراطورية المرابطية.

في عام 1126، أمر زعيم المرابطين علي بن يوسف بإحاطة المدينة بدائرة من الأسوار، وذلك خوفا من التهديدات المتزايدة من دولة الموحدين. تشير المصادر التاريخية إلى أن قاضي قرطبة، الوليد بن رشد، هو من أقنع أمير المرابطين ببناء الأسوار. واستغرق بناء هذه الأسوار ثمانية أشهر فقط، وبتكلفة بلغت 70,000 دينار ذهبي. تم تحديد مسار الجدران باستخدام الحبال، واستعين بالمنجمين لتحديد الوقت الأنسب للبناء.

إلى اليوم، لا تزال الكثير من أسوار مدينة مراكش الأصلية التي بناها المرابطون قائمة، رغم وجود اختلافات في الأجزاء الجنوبية والشمالية. شكلت المنطقة المسورة شكلا غير منتظم، ربما بسبب وجود مواقع دينية ومقابر، أو نتيجة قرارات مفاجئة لتوسيع المدينة. العديد من البوابات الرئيسية تعود إلى تلك الفترة، على الأقل في مواقعها، إن لم يكن في أشكالها وأسمائها الحالية. وتشمل هذه البوابات (بالترتيب من الشمال الشرقي): باب فاس (المعروف لاحقًا باسم باب الخميس)، باب الدباغ، باب أيلان، باب أغمات، باب ينتان، باب الصليحة، باب نفيس، باب الشريعة، باب المخزن، باب العريسة (المعروف أيضا باسم باب الراحة)، باب مصوفة، وباب تغزوت.

اختفت أربعة من هذه البوابات وهي: باب الشريعة، باب المصوفة، باب ينتان، وباب الصليحة، وهي معروفة فقط من النصوص التاريخية أو من الأدلة الأثرية.

مرحلة التطوير والتجديد مع دولة الموحدين

في عام 1147، غزا حاكم الدولة الموحدية عبد المؤمن مدينة مراكش، وقام بتدمير العديد من المعالم التي شيدتها الدولة المرابطية، خصوصا المساجد. رغم ذلك، تم استخدام قصر الحجر وقصر علي بن يوسف كمقر لحكام الدولة الموحدية.
خلال فترة حكم الخليفة الموحدي يعقوب المنصور (1148-1199)، بدأ تنفيذ مشروع كبير يهدف إلى إنشاء منطقة ملكية جديدة تُعرف باسم “القصبة”. كان الهدف من هذا المشروع هو تلبية الاحتياجات المتزايدة للمدينة وتوفير مساحة أكبر نظرا للنمو السريع. ارتبطت المنطقة الجديدة بالجزء الجنوبي من المدينة، ويعتقد أن الحاكم الموحدي كان يسعى لتقليد الحكام المسلمين الذين بنوا أماكن منفصلة للحكم مثل مدينة الزهراء التي بناها الأمويون بالقرب من قرطبة وسامراء التي بناها العباسيون في العراق. انتهى بناء القصبة في عام 1190م، بعد خمس سنوات من بدء المشروع.

يعود الجزء الغربي والجنوبي للقصبة الحالية إلى فترة حكم الموحدين. يمكن الوصول إلى القصبة عبر الأسوار بالقرب من باب الرب (باب النفيس). كما أنشأ الموحدون حدائق واسعة تحيط بالجدران، من أبرزها حدائق أكدال التي كانت تقع جنوب الأسوار.

المرحلة الثانية والثالثة من التطوير والتجديد مع الدولة السعدية وخلال فترة العلويين

بعد زوال الدولة الموحدية، تراجعت مكانة مدينة مراكش بشكل ملحوظ، حيث نقلت الدولة المرينية العاصمة إلى مدينة فاس، مع تنفيذ بعض التطويرات المحدودة في مراكش. لم تشهد المدينة انتعاشها الحقيقي إلا خلال فترة الدولة السعدية (من القرن السادس عشر إلى أوائل القرن السابع عشر)، حيث قام السعديون بتجديد وتوسيع القصبة من الشمال وبناء بعض القصور مثل قصر البادي. قام السلطان مولاي عبد الله غالب بتوسيع الخط الشرقي للمدينة من خلال نقل السكان اليهود إلى منطقة ملاح الجديدة الواقعة على الجزء الشرقي من القصر الملكي. كما قام السلطان أحمد المنصور بتجديد حدائق أكدال، مما ساهم في الحفاظ على هذا النسيج الضخم داخل الأسوار في الجزء الجنوبي من المدينة.

قام السعديون وبعدهم العلويون بتوسيع مجمع الزاوية والمسجد حول مقام سيدي بلعباس الواقع خارج البوابة الشمالية للمدينة. جذبت المنطقة العديد من المستوطنين، مما أدى إلى ازدهار الحي خارج أسوار المدينة. في عهد السلطان العلوي محمد بن عبد الله، تم تمديد أسوار المدينة لتشمل هذا الحي كجزء من الامتداد الشمالي الجديد للمدينة، وهذا كان آخر تعديل رئيسي لجدران المدينة.

قام السلطان محمد بن عبد الله بإعادة إعمار دار المخزن بعد سنوات من الإهمال، وتوسيع الجزء الجنوبي من المدينة لاستيعاب حدائق جديدة وسلسلة من المربعات المسورة المعروفة باسم “مشوار” أو “فناء القصر الملكي”. تم بناء العديد من البوابات لتنظيم هذه الملاحق الجنوبية الجديدة.

في القرن التاسع عشر، أعاد السلطان محمد بن عبد الرحمن بناء الجدار الغربي وأضاف حصناً يسمى “سقلات المرابط” للدفاع عن هذا الجزء من الأسوار.

تصميم أسوار مراكش ووصفها

تصميم الأسوار

تتميز أسوار مراكش بتصميم منتظم يعكس النمط المغربي والأندلسي النموذجي في القرون الوسطى. يبلغ ارتفاع الأسوار ما بين 6 و8 أمتار، وتحصن كل 25 إلى 30 مترًا بواسطة أبراج مربعة أو زوايا محصنة. يتراوح سمك الجدران بين 1.4 و2 متر، بينما يتراوح سمك الأبراج بين 8 و14 مترًا.

عناصر التحصين

في الأصل، كانت الجدران تعلوها مسار ضيق يعرف باسم “مسيرة حائطية”، محمي بزينة الشرفة. على الرغم من أن العديد من هذه الزخارف قد اختفت بمرور الوقت، إلا أن بقاياها تعطي لمحة عن التصميم الأصلي للجدران. كانت الجدران محاطة بخندق، رغم أن دوره الدفاعي ربما لم يكن كبيرا.

مواد البناء

تم بناء الأسوار باستخدام تقنيات البناء التقليدية في المغرب والأندلس، مع استخدام المواد المحلية المتاحة في ذلك الوقت. هذا يشمل الطين والطوب الحجري، ما أعطى الجدران قوة ومتانة ساعدت في صمودها عبر القرون.
الوظائف الدفاعية
إلى جانب وظيفتها الأساسية في حماية المدينة، كانت الأسوار تستخدم لتنظيم حركة الدخول والخروج من المدينة عبر البوابات المختلفة. كما أن الأبراج والزوايا المحصنة كانت تُستخدم كمنصات للمراقبة والدفاع، مما جعلها جزءًا لا يتجزأ من نظام الدفاع الشامل للمدينة.

التغيرات عبر الزمن

مع مرور الزمن، شهدت الأسوار بعض التعديلات والترميمات، خصوصًا خلال فترات حكم السعديين والعلويين. هذه التعديلات تضمنت توسعات وتجديدات لتحسين الدفاعات وتلبية احتياجات النمو السكاني والتوسع العمراني.
بشكل عام، تعكس أسوار مراكش التراث الغني للمدينة وتطورها عبر العصور، محافظة على مزيج من الهندسة المعمارية الدفاعية والفنية.

طرق البناء والصيانة


تقنية التربة المدكوكة

أسوار مراكش بنيت باستخدام تقنية التربة المدكوكة، المشهورة في المدن التاريخية المغربية مثل فاس. تعرف هذه التقنية أيضا باسم “Pisé” بالفرنسية، وهي تعتمد على استخدام مواد محلية مثل الطين والتربة، مع إضافة مواد أخرى مثل القش أو الجير لتعزيز الالتصاق والمتانة.

المواد المستخدمة

الطين والتربة: تتنوع المواد المستخدمة من صلصال الطين إلى التربة الصخرية.
الجير: يضاف الجير لجعل الجدران أكثر صلابة ومقاومة، وتختلف نسبة الجير حسب الموقع. جدران مراكش تحتوي على ما يصل إلى 17% من الجير، بينما جدران فاس ومكناس قد تحتوي على ما يصل إلى 47٪.
مواد إضافية: القش وغيره من المواد المحلية.

عملية البناء

البناء من الأسفل إلى الأعلى: يتم بناء الجدران من القاع إلى الأعلى على مراحل، حيث يتم ضغط وحزم المواد في أقسام طولها بين 50 و70 سم.

استخدام الألواح الخشبية: تثبت المواد مؤقتا باستخدام ألواح خشبية. بعد تسوية كل طبقة، يتم إزالة الألواح وتكرار العملية.

السقالات الخشبية: تترك العملية آثارا في شكل صفوف من الثقوب الصغيرة المرئية على وجه الجدران.

الطلاء والحماية

غالبًا ما كانت الجدران تُغطى بطبقة من الجير أو الجص أو مواد أخرى لمنحها سطحا ناعما وحماية البنية الأساسية. هذا الطلاء يساعد في الحفاظ على الجدران من العوامل الجوية ويعزز متانتها.

الصيانة

تتطلب الجدران المصنوعة من التربة المدكوكة صيانة دورية نظرا لقابليتها للاختراق وتعرضها للتآكل بسبب المطر. في المناطق القريبة من الصحراء، قد تنهار الهياكل في غضون عقدين إذا لم تتم صيانتها بانتظام. لذا، تعتبر الصيانة المستمرة أمرا حيويا للحفاظ على هذه الجدران. بعض أجزاء الجدران تبدو جديدة تمامًا بسبب عمليات الترميم المستمرة، بينما تظهر أجزاء أخرى في حالة تدهور وانهيار.

إن أسوار المدينة الحمراء عريقة بعراقة المدينة القديمة التي شكلت في الأصل الفضاء الذي أطلق عليه مراكش، ورغم قدم تاريخ بنائها وعلى مدار السنوات ظلت هذه الأسوار قائمة بفضل الصيانة والتجديد التي قامت به مختلف الإمبراطورية التي حكمت المدينة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top