وليلي المدينة المنبعثة من الرماد
على بعد قرابة ثلاثين كيلومتر شمال مدينة مكناس، و كيلومترين عن مدينة زرهون، يقبع أثر تاريخي لم يبح بعد بكامل أسراره. مدينة وليلي التاريخية التي وطأت أرضها الكثير من الحضارات و تعاقبت على حكمها مختلف المماليك والامبراطوريات، ظلت صامدة في وجه كل التحولات السياسية إلى أن استلمتها قوى الطبيعة وباغتها زلزال في منتصف القرن الثامن عشر وصيرها إلى حطام اختفت بعده الى ان بعثها الى الوجود المستكشفون الأثريون في نهاية القرن التاسع عشر.
الموقع الاثري وليلي
تقع المدينة الأثرية وليلي في شمال المغرب بين مدينتي فاس ومكناس ، حيث تبعد عن فاس حوالي 58 كيلومتر ومكناس حوالي 29 كيلومتر ، أما عن مدينة مولاي ادريس زرهون التي تحتضن ضريح مولاي إدريس الأول فهي قريبة على بعد 2 كيلومتر فقط. تقع المدينة القديمة على منبسط سهلي خصب بين نهرين هما وادي خومان وفرطاسة، وتوجد على سفح جبل زرهون.
الموقع الجغرافي لها ووجودها في سهل أراضي زراعية خصبة مكنها تاريخيا من أن تكون مستقر مثالي للسكان ومركز حضاري مؤثر جلب الكثير من الوافدين عليها من مختلف الثقافات والأصول. وان كانت كثير من معالمها اختفت نتيجة مرور القرون وتوالي الحضارات عليها ، فإن اصالتها الرومانية لازالت بادية على محياها.
تاريخ وليلي
وليلي او Volubilis باللاتينية ، هي أقدم موقع آثار تاريخي بالمغرب، وهو الآن مسجل ضمن قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو. يقال ان أصل التسمية يرجع إلى اللغة الأمازيغية و كلمة ”واليلت” التي تعني نبات الزنبق الذي ينمو بكثرة على جنبات الموقع.
وليلي في القدم
عرفت وليلي استقرار الإنسان في العصر الحجري الحديث ، قرابة 5000 سنة، وهو ما كشفته الآثار الاركيولوجية في شكل حفريات فخارية تم استخراجها من الموقع و هي تماثل تلك في ايبيريا. استقر بها الفينيقيون في القرن الثالث قبل الميلاد كما تدلل على ذلك آثارها مثل قطع حجارة وفخار مكتوب عليها بالفينيقية والإله البوني البعل.
وليلي بين الدولتين الامازيغية والرومانية
في القرن الأول الميلادي صارت وليلي عاصمة الدولة الأمازيغية الموريتانية الطنجية التي كانت تابعة للإمبراطورية الرومانية. جوبا الثاني ملك موريطانيا تتلمذ على يد الرومان وتلقى تعليمه في روما، فكان هو وابنه يوصفان أنهما ملكان رومانيان اكثر ولهذا يعتقد أنهما فضلا العمران والهندسة الرومانية في تصميم وليلي. شهدت وليلي في هذه الفترة وفترة سيطرة الأباطرة الرومانيين مرحلة ازدهار كبير، حيث شيدت المعابد والكنائس والمحكمة والحمامات وقوس النصر، والمنازل الجميلة ذات الزخرفة الفسيفسائية بالإضافة إلى مرافق أخرى متعلقة بالنشاط الاقتصادي كمعاصر الزيتون.
عهد ما بعد الامبراطورية الرومانية
سقطت مدينة وليلي من الإمبراطورية الرومانية في القرن الثالث الميلادي على وقع ضربات القبائل الامازيغية المجاورة، ولم يحاول الرومان استعادتها بل قاموا بسحب جيوشهم من المنطقة. هذه الفترة هي الأكثر غموضا في تاريخ وليلي، حيث يقال ان الموقع الحضاري حافظ على المستقر السكاني به إلى فترة الأدارسة، وكان مركز جذب ثقافي لاتيني وديني مسيحي يعتقد انه سبب قدوم قبيلة أوربة الامازيغية اليه. وعندما جاء إدريس بن عبد الله، أول سلطان من سلالة الأدارسة، إلى المغرب هاربا من بطش العباسيين في الشرق بعد موقعة فخ، كانت قبيلة أوربة أول من تبعه و دعمه وبايعه من القبائل. وبقيت القبيلة على الولاء للادارسة الى حين انتهاء دولتهم.
عهد الادارسة
عندما قدم المولى إدريس الأول الى المغرب، استقر بوليلي و بقي الأدارسة بها الى أن بنى ابنه إدريس الثاني مدينة فاس وجعلها عاصمة. ولكون وليلي تقع في منطقة مفتوحة منخفضة، جعلها موقعها ذاك غير ملائمة من الناحية الامنية. لهذا اختار المولى ادريس الاول ان يتحرك قليلا صوب الجبال على بعد بضع كيلومترات من الموقع التاريخي الروماني ويبني ما سيعرف الى الان بمولاي ادريس زرهون وبها قبره.
الآثار التاريخية للمدينة
الموقع الجغرافي لوليلي وسط حقول خصبة نابضة بوفرة المياه وكثرة المغروسات خاصة أشجار الزيتون، جعلها قبلة مثلى لتطور المملكة الأمازيغية الموريتانية الطنجية التي جعلتها عاصمتها والإمبراطورية الرومانية التي سيطرت عليها بعد إعلان تبعية تلك المملكة لها. واليوم لا زالت الاثار العمرانية ذات الطابع الروماني بادية في الآثار.
احتفظ قوس النصر، أحد المعالم الشهيرة بالموقع الأثري، بحقه في الوجود رغم تقلبات الزمن وهو الذي شيد احتفاء بأحد زعماء المدينة. بها محكمة وساحة قريبة من الاغورا الرومانية ، يعتقد أنها كانت المكان الذي يناقش فيه السكان آنذاك شؤونهم اليومية. كما يحتفظ الموقع ببقايا حمامات شعبية كان سادة القوم يستخدمونها النظافة. و لانها كانت معروفة بأشجار الزيتون، فإن هذا النشاط الفلاحي كانت له بصمته هو الآخر في الآثار الموروثة ، فتوفرت على معاصر عديدة لزيت الزيتون، بالإضافة إلى المخابز.
كانت وليلي منارة رومانية في شمال أفريقيا. ولعل الزخرفة والفسيفساء ذات الطابع الروماني هي من أهم ما ميز الموقع الأثري، وما يحافظ على زهوه الى الان. تم الانتباه إلى الموقع باكرا في فترة المولى إسماعيل في القرن الثامن عشر على يد مستكشف أثري انجليزي. لكن عمليات الحفر لم تبدأ الا مع الاربعينات من القرن الماضي في فترة الاستعمار الفرنسي. ومنذ ذلك الحين ، لم تنفك اسرار الموقع في البوح عن جنبات من تاريخها.
واليوم هناك الكثير من الحفريات التي استخرجت من وليلي ووضعت في المتحف الوطني في العاصمة الرباط. تشكمل هذه الحفريات الكثير من الأواني الفخارية ، ولعل أهمها التمثال البرونزي الذي تم استخراجه عام 1946 والذي يحكي الكثير عن تاريخ المدينة المهجورة.
بفضل كل تلك الخصائص والميزات التي تمتعت بها وليلي، وحضور التأثير الحضاري الروماني القديم في شمال افريقيا و ما تحافظ عليه وليلي من كنوز تاريخية، كانت ولا زالت وجهة سياحية كبيرة بالمغرب، تعرف توافد السياح إليها من كل الاقطار ، الأجانب منهم و المغاربة. إنها كنز لم يفشي كل أسراره بعد وهي أحد أهم المواقع التاريخية التي تساهم في اقتصاد البلاد.