ملاح الصويرة وأحد الأحياء اليهودية القديمة، يظهر بتفاصيله المعمارية التي تعكس التاريخ اليهودي المغربي.

الملاح في الصويرة حي يروي تاريخ اليهود في المغرب

يعد الحي اليهودي الملاح في الصويرة أشهر حي لليهود في المغرب، إذ عاشت فيه أكبر جالية يهودية مغربية مقارنة مع باقي أحياء الملاح في مختلف مدن المملكة. يحمل ملاح الصويرة بين أزقته وجدرانه تاريخا من التعايش السلمي بين المسلمين واليهود، وحكايات عن الازدهار التجاري لموغادور، وقصصا عن التميز الحرفي لليهود الذين عاشوا فيه، وهو فوق كل شيء مكان مميز بهندسة معمارية فريدة من نوعها. سنأخذكم اليوم في رحلة ممتعة نتعرف فيها على ملاح الصويرة، فهيا نتصفح معنا تاريخ واحد من أشهر أحياء مدينة الرياح.

الحي اليهودي الملاح أصل التسمية

منظر للحي اليهودي الملاح في الصويرة يظهر الأزقة الضيقة والمباني التاريخية التي تعكس تراث التسمية.

تتفق جميع الأبحاث والدراسات والمراجع التاريخية على أن أصل تسمية أحياء اليهود في المغرب بالملاح يرجع إلى المكان الذي شيد فيه أول حي لهم فيه في مدينة فاس، حيث كانت المنطقة التي بني فيها مخصصة لجمع الملح وتخزينه وتصديره. وقد كان هذا الموقع الذي يستعمل لغاية تجميع الملح وتصديرها عبر القوافل التجارية نحو أوروبا يقع في مدخل مدينة فاس، والتي كانت عاصمة المرينيين في تاريخ ظهور أول أحياء الملاح للوجود في ثلاثينيات القرن الخامس عشر الميلادي.

أطلق الحكام المرينييون الذين كانت المدينة العلمية مقر السلطان وعاصمة الدولة لديهم اسم الملاح على مقر إقامة العائلات اليهودية، فعرف بها الاسم وصار متداولا في المجتمع المغربي أبان تلك الحقبة. ولما ظهرت أحياء أخرى لتجمعات اليهود يعيشون فيها في مدن كمراكش ومكناس والصويرة فيما بعد، أطلق عليها من قبل اليهود أنفسهم ومن لدن سائر المجتمع اسم الملاح إشارة لحي اليهود.

البدايات المبكرة لظهور الملاح

شهدت الصويرة منذ منتصف القرن السادس عشر وحتى مطلع القرن العشرين ازدهارا تجاريا كبيرا، فباعتبارها مدينة ساحلية تتوفر على ميناء بارز خلال تلك الحقبة، فقد تحولت خلال القرن الثامن عشر لمركز تصدير للسلع نحو أوروبا من قبيل المنسوجات والشاي والسكر.

توافد اليهود بكثرة على الصويرة في القرن السابع عشر واستقروا في المكان الذي سيصير حيهم الخاص، فبنوا الدور الأولى لهم مشكلين البدايات المبكرة للمجتمع اليهودي بالمدينة عام 1764م، وشاركوا في الحياة الاجتماعية جنبا إلى جنب مع السكان المسلمين حتى قبل أن يؤسس الملاح بشكل رسمي.

عاشت في موغادور عائلات يهودية قبل القرن السابع عشر، كان أبرزها العائلات التجارية التي استقدمها المنصور الذهبي السعدي نهاية القرن السادس عشر من أجل تنشيط ميناء موغادور التجاري. غير أن النقلة النوعية لليهود في الصويرة لم تحدث إلا بعد تحولها منذ منتصف القرن السابع عشر إلى مركز اقتصادي بحري ذو أهمية كبرى في المملكة المغربية.

التأسيس الفعلي للملاح

ساهم اليهود في نمو اقتصاد موغادور وهو الاسم الذي كان يطلق على الصويرة في القرن الثامن عشر، من خلال تجارتهم الواسعة في السكر والشاي والمنسوجات والمجوهرات والمعادن، ما أدى إلى تطور وتطوير المدينة بشكل كبير. نتيجة لهذا التأثير القوي جدا على مجريات الحياة العامة في الصويرة، تم تأسيس الحي اليهودي الخاص بالتجار والعائلات اليهودية بأمر من السلطان محمد بن عبد الله عام 1807م. وسيرا على منوال الحي اليهودي الأول والتاريخي في فاس، أطلق على هذا الحي كذلك أسم الملاح.

يمثل الحي اليهودي بمدينة الرياح إرثا تاريخيا لا غنى عنه، فهو بعد كل شيء أحد أهم مكونات هويتها الثقافية والحضارية. بلغ اليهود ذروة الازدهار في الصويرة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إذ أصبح عدد الذين يقطنون بحي الملاح يشكل نصف سكان المدينة.

البنية المعمارية ومكونات الحي اليهودي الملاح في الصويرة

الحي اليهودي الملاح، يعكس التراث اليهودي المغربي بأزقته الضيقة ومبانيه التاريخية.

يقع حي الملاح في الصويرة بالمدينة القديمة وله مدخلان، أحدهما مدخل من جهة المدينة القديمة، والآخر مدخل من الواجهة البحرية. اشتمل الحي اليهودي عند إنشائه على عشرين دكانا تجاريا، و200 منزل سكني، ومطحنتين وفرنين وحماما تقليديا. غير أنه ومع ازدياد الساكنة ونموها بشكل كبير ازدادت المنازل والدكاكين لتستوعب حجم المقيمين فيه.

يتكون حي الملاح في الصويرة من أزقة ضيقة تخترق المنازل المتراصة مع بعضها، بالإضافة لدكاكين منبثقة من المنازل أو مستقلة البنيان. تم طلاء جميع المباني باللون الأبيض والأزرق وهما اللونان المميزان في الثقافة والتراث اليهودي من جهة، كما أنهما اللونان المستخدمان في طلاء جميع مباني المدن الساحلية وبعض المدن الجبلية في المغرب.

تتميز أبواب المنازل في ملاح الصويرة بنقش نجمة داوود عليها، كما يتم نقش الجدران وواجهة البيوت بنقوش يهودية عبرانية معقدة وغريبة. أما المنازل نفسها فقد كانت تبنى متعددة الطوابق، حيث كانت الطوابق العلوية تخصص للسكن، وتتوفر فيها شرفات تطل على الأزقة. فيما كانت الطوابق السفلية تستعمل كمتاجر أو ورشات عمل.

ضم الحي اليهودي في الصويرة كذلك المعابد اليهودية، وهي كنيست يهودية للصلاة أشهرها كنيس لكحل وكنيس سيمون أتياس. اشتمل الملاح أيضا على مقبرة يهودية ذات مساحة شاسعة، ورغم أنها واقعة خارجه إلا أنها كانت تعتبر من مكوناته، وفيها تتواجد قبور مع شواهد عليها نقوش بالعبرية. إضافة إلى هذا، احتوى الملاح على مدارس تم إنشاؤها لتدريس العبرية والعربية معا، وأماكن واسعة للتجول واللقاء والاجتماع اعتبرت بمثابة الساحات المشتركة، وأسواق للبيع في الهواء الطلق.

التنظيم المجتمعي في الملاح

منحت السلطة المركزية لليهود المقيمين في حي الملاح باعتبارهم من أهل الذمة الاستقلالية في تسيير أمورهم الداخلية، ونظم القانون المغربي آنذاك وحتى عهد الحماية الفرنسية علاقة اليهود بالصويرة مع المسلمين في نفس المدينة. مارس اليهود شعائرهم بكل حرية في حيهم الملاح، وقاموا بإدارته وتسييره على كافة المستويات بما فيها القضاء والعلاقات الاجتماعية مثل الزواج.

شكل الملاح بالنسبة لليهود في الصويرة ما يشبه المدينة اليهودية، ورغم ذلك، فقد عمل اليهود مع المسلمين على تطوير المدينة بشكل اعتبر أرقى نماذج التعايش السلمي والتسامح الديني على الإطلاق، وهو ما أدى إلى ازدهار الصويرة على مدى قرنين متتالين واحتلالهم الريادة التجارية في المغرب حتى دخول الاستعمار الفرنسي.

الأهمية الثقافية وتأثير اليهود على الصويرة

ساهم اليهود في الصويرة في كل مناحي الحياة الاجتماعية بها، فقد كانوا بارعين في الحرف اليدوية بما فيها النسيج والمجوهرات، وقد اشتهروا بأعمال الصناعة لكل ما له علاقة بالفضة حتى صارت علامتهم المميزة، مما ساهم بشكل كبير في إغناء التراث الحرفي للصويرة.

مارس يهود الصويرة التجارة ونقلوها لمستوى آخر جعل المدينة معهم تصبح مركزا تجاريا بحريا بارزا، بل احتلت الصويرة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بفضل اليهود المرتبة الأولى في المملكة، باعتبارها مركز الاقتصاد المغربي. تاجر اليهود في الملح والشاي والسكر والأقمشة والملابس والحبوب والتمور، فصدروا هذه المواد إلى الخارج عبر ميناء المدينة. فيما اعتمدت تجارتهم الداخلية سواء مع سكان الصويرة أو في الأسواق الخارجية على المتاجرة في الدجاج والبيض والأبقار والأغنام وحتى الإبل.

حافظ اليهود على تقاليدهم وعاداتهم ومارسوها داخل الملاح وشاركوها مع المسلمين في الصويرة في خضم التعايش المجتمعي، وهو ما أدى إلى التأثير والتأثر فخلفوا روائع في الموسيقى أصبحت إرثا مغربيا خالصا يتم تداوله على نطاق المجتمع ككل، وهو ما لا يختلف عنه حال ملاح فاس وملاح مراكش.

ظهر التأثير الفني اليهودي في الثقافة المغربية جليا في أغاني صارت متداولة ومحفوظة في الشارع المغربي ولا تزال تردد حتى اليوم مثل الأغنية التراثية المتصلة بتهجير اليهود من الأندلس والشهيرة بمطلعها تكشبيلة تيوليولة، ومعناها قبل التحريف كي اشبيلية كي طليطلة. بالإضافة للأغنية اليهودية الشهيرة بالدارجة المغربية “للا ماما”.

برعت النساء اليهودية والرجال كذلك من سكان الملاح في مجال الخياطة بشكل كبير، إذ على عكس المجتمع العربي المغربي المسلم الذي لم تكن النساء فيه تمارس الخياطة بشكل رسمي وإنما كعمل منزلي، فإن اليهوديات وخاصة نساء الصويرة عملن في مجال الخياطة في ورشات ودكاكين مفتوحة أمام العملاء.

ملاح الصويرة في الوقت الراهن

ملاح الصويرة في الوقت الراهن، يظهر بتفاصيله المعمارية التقليدية وبعض الترميمات الحديثة.

شهد ملاح الصويرة خلال مرحلة الاستعمار الفرنسي للمغرب انحدارا كبيرا، إذ أن سلطات الحماية جعلت من المدن الكبرى كالبيضاء وفاس ومراكش مراكز الثقل الاقتصادي والسياسي في المغرب، ما أدى إلى إهمال تام للصويرة.

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، شهد العالم تغيرات كبرى، كان أبرزها إعلان تأسيس دولة إسرائيل سنة 1948، وهو ما أدى إلى الهجرات الكبرى لليهود نحوها بما فيهم يهود المغرب. بدأت هجرات يهود الصويرة منذ عام 1948، غير أنها وصلت الذروة بعد استقلال المغرب سنة 1956، إذ في غضون سنوات قليل بعد ذلك هاجر أغلب سكان ملاح الصويرة نحو إسرائيل حتى أصبح هذا الحي اليهودي شبه فارغ تماما من السكان.

اهتم المغرب رغم أن اليهود لم يعودوا مقيمين في الصويرة بالإرث التاريخي لهم في المدينة، فقام بترميم الملاح، وأعاد الاعتبار للثقافة اليهودية باعتبارها مكون أساسيا لهوية الصويرة. فتم تأسيس بيت الذاكرة في حي الملاح كمتحف يهودي يحتوي على أرشيف تاريخي لليهود، وهو يتكون من كنيس للصلاة، ودار الذاكرة، ومركز دولي للبحث أطلق عليه مركز حاييم وسيليا.

كان الهدف الأساسي من إنشاء بيت الذاكرة هو الاعتراف وتذكير العالم بالتعايش السلمي بين اليهود والمسلمين داخل مجتمع الصويرة. وقد كتب على لوح منصوب عند مدخله عبارات بالعبرية والعربية، كما تم وضع آية من القرآن ونص من التوراة.

إن ملاح الصويرة هو إرث ورمز تاريخي بالمدينة يتجاوز مجرد كونه حيا يهوديا عاش فيه هؤلاء خلال مرحلة من التاريخ. وستظل المقبرة اليهودية والحرف التقليدية وفن الخياطة والتجارة، بالإضافة للتعايش السلمي والتسامح الذي طبع علاقة يهود الصويرة بمسلميها تذكر على الدوام بقيمة الملاح مكون من مكونات الهوية التاريخية لمدينة الرياح.

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *